قبضة التفاهة- استهلاك المحتوى السائد وفقدان القيمة

المؤلف: عبده خال11.13.2025
قبضة التفاهة- استهلاك المحتوى السائد وفقدان القيمة

ما زلنا أسرى لشباك الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي، مقيدين بما يعرض علينا من محتوى هزيل وسط هذه الزحمة الرقمية .

قد يُقال لك: "أنت من يملك جهاز التحكم، فابتعد عن القنوات الهابطة." ولكن، لو أن الخطر يقتصر على الفضائيات فحسب، لكانت النصيحة مجدية. لكن سجننا الإعلامي قد اتسع ليشمل منصات لا حصر لها، ثابتة ومتحركة على حد سواء، مما زاد الطين بلة .

إذا أردنا تطبيق القاعدة الاقتصادية العتيقة المنسوبة للخليفة عمر بن الخطاب، وأيضًا لإبراهيم بن أدهم، عندما تذمر الناس من ارتفاع أسعار اللحوم، فكان الجواب: "أرخصوه!" أي امتنعوا عن شرائه لينخفض سعره تلقائيًا .

إلا أن تطبيق هذه القاعدة على سيل المحتوى المنتشر سيكون ضربًا من المستحيل، ولن تجدي استراتيجيات التجاهل أو المقاطعة نفعًا، لأن الفرد منا أصبح غارقًا، أو منغمسًا، في هذا المحيط الإعلامي والإعلاني المتلاطم الأمواج.

المسألة تتعلق بتشابك مستويات متنوعة من التغذية الثقافية، ووسائل نشر تلك الثقافة. لقد أصبحت التغذية الإعلامية قسرية، من خلال مفاهيم الاستهلاك التي باتت سمة جوهرية للأفراد والجماعات. إن محور ما نعيشه هو الاستهلاك، استهلاك للمحتوى المنشور من قمة الهرم إلى أصغر تفاصيل حياتنا اليومية. لا أود العودة إلى فلسفة الدكتور آلان دونو في كتابه "نظام التفاهة"، فقد كشف الواقع أن عالمنا مجتمع يستهلك وينتج التفاهة. والفنون، التي كانت الحصن المنيع في وجه أي انحدار، تم الاستيلاء عليها من قبل رأس المال في عملية اقتصادية معقدة، أدت إلى رهن جميع الفنون للإنتاج، الذي ولد من رحم مقولة "الجمهور يريد هذا". وعند تتبع عبارة "الجمهور يريد هذا"، نجد أن صانعي التفاهة قد أحكموا قبضتهم على أبواب جميع حقول الفن، وأصبح المنتج هو المهيمن على المشهد. فالمنتج يبحث عن المُعلن، والمُعلن يبحث عن أعداد غفيرة من المشاهدين، والمشاهدون مستهلكون لكل شيء. وكلما كان المنتج تافهًا، حظي بقبول أعداد جمة من المستهلكين. فهل المستهلك هو الجمهور المشجع لتلك التفاهة، أم أن جوهر فلسفة التفاهة هو الوعاء الجامع لكل الممارسات السلوكية التي تنتج تلك الثقافة المتردية؟

وإذا ما ابتعدنا عن التنظير المفرط، يمكننا القول بأن القضية عبارة عن سلسلة متصلة من الأمور المعقدة المتراكمة فوق بعضها البعض، أشبه بأغنية "يا طالعين الشجرة" المتكررة .

ومع إشارتنا إلى كل من تفاعل وأُعجب وساند رفع مستوى السخافة، لن يكون لتلك الإشارة أي مغزى، فالسفهاء لن يطرف لهم جفن خجل. ولو جمعنا الدهر كله بقصدية لمحاربة تلك التفاهة، لما استطعنا تحريك صخرة أو حصاة من ذلك المستنقع الآسن.

هذا إذا اتبعنا وصدقنا نصيحة الشاعر الأعشى حين قال:

كَناطِحٍ صَخْرَةً يَوْماً ليِوُهِنَها * فَلَمْ يَضِرْها وأوْهى قَرْنَه الوعِلُ.

أعتقد أن الحق يختبئ في كل زمان، لكن اختباءه لا يمحوه. وإذا آمنا بأن نظام الرداءة حاضر، فليتمسك كل منا بما تبقى لديه من قيمة، قيمة واحدة تسقط مائة تافه.

هذا الكلام موجه ممن يؤمن بما أؤمن به، أما غيرنا فسوف يسخرون منا وهم يرددون: "أي سخافة تلك التي تتشبثون بها".

هذا الترديد يؤكد أن لكل عصر قيمه الخاصة، وليس من الضروري أن تروق لنا، يكفي أنها تروق لأهل ذلك العصر.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة